فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
{قضى} في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول إن المعنى {وقضى ربك} أمره {ألا تعبدوا إلا إياه} وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكمًا، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود {ووصى ربك} وهي قراءة أصحابه، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى بـ {قضى} حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك، وقال عن ميمون بن مهران: إنه قال إن على قول ابن عباس لنورًا، قال الله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك} [الشورى: 13] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا، والضمير في {تعبدوا} لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له: إنه طلق امرأته ثلاثًا فقال له الحسن: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال له الرجل قضي ذلك علي، فقال له الحسن وكان فصيحًا، ما قضى الله أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس: تكلم الحسن في القدر.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون {قضى} على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في قوله: {تعبدوا} للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة، لكن على التأويل الأول يكون قوله: {وبالوالدين إحسانًا} عطفًا على {أن} الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله: {وبالوالدين إحسانًا} مقطوعًا من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين، و{إما} شرطية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر: {يبلغنّ} وروي عن ابن ذكوان {يبلغنَ} بتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي: {يبلغان} وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله: {أحدهما} فاعلًا، وقوله: {أو كلاهما} معطوفًا عليه، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله: {أحدهما} بدلًا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر: الطويل:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ** ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت

ويجوز أن يكون {أحدهما} فاعلًا وقوله: {أو كلاهما} عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلًا في القرآن، وقرأ أبو عمرو: {أف}بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى {أف} بالكسر والتنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر: {أف} بفتح الفاء، وقرأ أبو السمال: {أف} بضم الفاء، وقرأ ابن عباس {أف} خفيفة، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية، وفيها لغات لم يقرأ بها {أف} بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة، {وأفًّا} بالنصب والتنوين {وأفي} بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير، {وأفًا} بألف بعد الفتحة، {وأف} بسكون الفاء المشددة {وأَف} مثل رب، ومن العرب من يميل {أفًا} ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول {أفاه}.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالًا لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه في نفسها، وإنما هي مثال الأعظم منها، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن، والألف وسخ الأظفار، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله: {ولا تقل لهما أف} معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما. وتقول: {أف}.
قال القاضي أبو محمد: والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه، وقال أبو الهدَّاج النجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: {وقل لهما قولًا كريمًا} ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ، وقوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر {الذل} هنا ولم يذكر في قوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الشعراء: 215] وذلك بحسب عظم الحق هنا، وقرأ الجمهور: {الذُّل} بضم الذال، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير {الذِل} بكسر الذال، ورويت عن عاصم بن أبي النجود، و{الذل} في الدواب ضد الصعوبة ومنه الجمل الذلول، والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبعده الله وأسحقه» قالوا من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له» وقوله: {من الرحمة}، {من} هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالًا، ويصح أن يكون لابتداء الغاية، ثم أمر الله عبادة بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقًا لهما وحنانًا عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ، وقوله: {ربكم أعلم بما في نفوسكم} أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما أو من غير ذلك، ويجعلون ظاهر برهما رياء، ثم وعد في آخر الآية بالغفران مع شرط الصلاح والأوبة بعد الأوبة إلى طاعة الله، واختلفت عبارة الناس في {الأوابين}، فقالت فرقة هم المصلحون، وقال ابن عباس: هم المسبحون، وقال أيضًا: هم المطيعون المحسنون، وقال ابن المنكدر: هم الذين يصلون العشاء والمغرب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في ذلك الوقت فقال: «تلك صلاة الأوابين»، وقيل غير هذا من المستغفرين ونحوه، وقال عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى، وحقيقة اللفظة أنه من آب يؤوب إذا رجع، وهؤلاء كلهم لهم رجوع أبدًا إلى طاعة الله تعالى، ولكنها لفظة لزم عرفها أهل الصلاح، قال ابن المسيب هو العبد يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، وفسر الجمهور: {الأوابين} بالرجاعين إلى الخير، وقال ابن جبير: أراد بقوله غفورًا للأوابين الزلة والفلتة تكون من الرجل إلى أحد أبويه، وهو لم يصر عليها بقلبه ولا علمها الله من نفسه، وقالت فرقة خفض الجناح هو ألا يمتنع من شيء يريدانه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقضى ربك}
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: أمَر ربك.
ونقل عنه الضحاك أنه قال: إِنما هي {ووصى ربك} فالتصقت إِحدى الواوين بالصاد، وكذلك قرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وسعيد بن جبير: {ووصى}، وهذا على خلاف ما انعقد عليه الإِجماع، فلا يلتفت إِليه.
وقرأ أبو عمران، وعاصم الجحدري، ومعاذ القارىء: {وقضاءُ ربك} بقاف وضاد بالمد والهمز والرفع وخفض اسم الرب.
قال ابن الأنباري: هذا القضاء ليس من باب الحتم والوجوب، لكنه من باب الأمر والفرض، وأصل القضاء في اللغة: قطع الشيء باحكام وإِتقان، قال الشاعر يرثي عمر:
قَضَيْتُ أُمُوْرًا ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ** بَوائِقَ في أكْمَامِهَا لَمْ تُفَتَّقِ

أراد: قطعتَها محكِمًا لها.
قوله تعالى: {وبالوالدين إِحسانًا} أي: وأمر بالوالدين إِحسانا، وهو البِرُّ والإِكرام، وقد ذكرنا هذا في [البقرة: 83].
قوله تعالى: {إِما يبلغن} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {يبلغنَّ} على التوحيد.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {يبلغانِّ} على التثنية.
قال الفراء: جعلت {يبلغن} فعلًا لأحدهما وكرَّت عليهما {كلاهما}.
ومن قرأ {يبلغانِّ} فإنه ثنَّى، لأن الوالدين قد ذُكرا قبل هذا، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: {أحدهما أو كلاهما} على الاستئناف، كقوله: {فعموا وصموا} [المائدة: 71] ثم استأنف فقال: {كثيرٌ منهم}.
قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفٍّ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {أُفٍ} بالكسر من غير تنوين.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والمفضل: {أُفَّ} بالفتح من غير تنوين.
وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: {أُفٍّ} بالكسر والتنوين.
وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر: {أُفٌّ} بالرفع والتنوين وتشديد الفاء.
وقرأ معاذ القارىء، وعاصم، الجحدري، وحميد بن قيس: {أَفًّا} مثل تعسًا.
وقرأ أبو عمران الجوني، وأبو السماك العدوي: {أُفُّ} بالرفع من غير تنوين مع تشديد الفاء، وهي رواية الأصمعي عن أبي عمرو.
وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: {أُفْ} باسكان الفاء وتخفيفها؛ قال الأخفش: وهذا لأن بعض العرب يقول: أفْ لك، على الحكاية، والرفع قبيح، لأنه لم يجيء بعده لام.
وقرأ أبو العالية، وأبو حصين الأسدي: {أُفِّي} بتشديد الفاء وبياء.
وروى ابن الأنباري أن بعضهم قرأها: {إِفِ} بكسر الهمزة.
وقال الزجاج: فيها سبع لغات، الكسر بلا تنوين، وبتنوين، والضم بلا تنوين، وبتنوين، والفتح بلا تنوين، وبتنوين، واللغة السابعة لا تجوز في القراءة: {أُفي} بالياء، هكذا قال الزجاج.
وقال ابن الأنباري: في {أُفٍّ} عشرة أوجه.
{أُفَّ} لك، بفتح الفاء، و{أُفِّ} بكسرها، {وأُفٍّ}، و{أُفَّا} لك بالنصب والتنوين على مذهب الدعاء كما تقول: {وَيْلًا} للكافرين، و{أُفٌّ} لك، بالرفع والتنوين، وهو رفع باللام، كقوله تعالى: {ويل للمطففين} [المطففون: 1]، و{أفهٍ} لك، بالخفض والتنوين، تشبيهًا بالأصوات، كقولك: {صهٍ} و{مهٍ}، و{أفهًا} لك، على مذهب الدعاء أيضًا، و{أُفّي} لك، على الإِضافة إِلى النفس، و{أُفْ} لك، بسكون الفاء، تشبيهًا بالأدوات، مثل: كم وهل وبل، وإِفْ لك، بكسر الألف.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: وتقول: {أُفِ} منه، و{أُفَ}، و{أُفُ}، و{أُفٍ}، و{أُفًا}، و{أفٌ}، و{أُفّي} مضاف، و{أفهًا}، و{أفًا} بالألف، ولا تقل: أُفي بالياء فانه خطأٌ.
فأما معنى {أف} ففيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه وسخ الظفر، قاله الخليل.
والثاني: وسخ الأذن، قاله الأصمعي.
والثالث: قلامة الظفر، قاله ثعلب.
والرابع: أن الأف الاحتقار والاستصغار، من الأَفف، والأَفف عند العرب: القِلَّة، ذكره ابن الأنباري.
والخامس: أن الأُفَّ ما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، حكاه ابن فارس اللغوي.
وقرأت على شيخنا أبي منصور قال: معنى الأف: النَّتَن، والتضجر، وأصلها: نفخك الشيء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إِماطة الأذى عنه، فقيلت لكل مستثقَل.
قال المصنف: وأما قولهم: تُف، فقد جعلها قوم بمعنى أف، فروي عن أبي عبيد أنه قال: أصل الأُفِّ والتُفِّ: الوسخ على الأصابع إِذا فتلته.
وحكى ابن الأنباري فرقًا، فقال: قال اللغويون: أصل الأُفِّ في اللغة: وسخ الأذن، والتُّفّ: وسخ الأظفار، فاستعملتهما العرب فيما يكره ويستقذرُ ويُضجر منه.
وحكى الزجاج فرقًا آخر، فقال: قد قيل: إِن أف: وسخ الأظفار، والتف: الشيء الحقير، نحو وسخ الأذن، أو الشظية تؤخذ من الأرض، ومعنى {أُف}: النَّتْنُ، ومعنى الآية: لا تقل لهما كلامًا تتبرَّم فيه بهما إِذا كَبِرَا وأسَنَّا، فينبغي أن تتولَّى من خدمتهما مثل الذي توليا من القيام بشأنك وخدمتك، {ولا تنهرهما} أي: لا تكلمهما ضَجِرًا صائحًا في وجوههما.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يدك عليهما، يقال: نَهَرْتُهُ أنْهَرهُ نَهْرًا، وانتهَرْتُه انتهارًا، بمعنى واحد.